ما لا تعرفه عن أحلام اليقظة وعلاقتها بالإبداع

التصنيف: 5 من أصل 5.
.
 
في عام ١٩٩٠، الباحثة لمنظمة العفو الدولي، صاحبة الخمسة وعشرون عامًا، أثناء جلوسها في القطار المتأخّر لأربعة ساعات والمتّجه من مانشستر إلى لندن، محدّقة في النافذة لساعات بينما كان الأشخاص من حولها يقضون وقتهم في قراءة المجلّات والصحف.. تبدو المرأة المُحدّقة في النافذة للذين يقضون وقتهم في القراءة بأنها تُضيّع وقتها بالتحديق في اللاشيء خارج النافذة 
 
 
هذه المرأة هي ج.ك. رولينغ، أثناء تحديقها التافه خارج النافذة لساعات، مُمارسة بهذا النوع من التحديق ما يُسمّى بأحلام اليقظة قالت رولينغ أن حبكة سلسلة هاري بوتر السحريّة ولدت أثناء تحديقها في النافذة. 
 
 
« بدأ يتفتق ذهني عن أفكار، وهذا الصبي النحيل أسود الشعر الذي يلبس نظارات طبية ولم يكن يعرف أنه ساحر بدأ يصبح حقيقيًا أكثر وأكثر بالنسبة لي.» ج.ك. رولينغ عن هاري بوتر / ويكيبيديا.
 
مارك توين، أثناء صيف مُنتج من الكتابة عام ١٨٧٤، قضى كامل أيامه يحلم أحلام يقظة تحت ظلال مزرعة كواري في نيويورك، بالسماح لعقله بأن يهيم، أن يفكر في كل شيء ولاشيء على الإطلاق.. إنتهى به الأمر بأن ينشر روايته الشهرية “مغامرات توم سوير” 
 
مثل هذا الإنفصال المبدع في لحظات الفراغ والتسلية ليس شيئًا غريبًا في مجال صناعة الأدب، فمعظم الأعمال الأدبيّة تنتج في جو مثل هذا. 
 
الفيزيائي ريتشارد فاينمان كان يقضي وقتها متأمّلًا بإستمتاع، الطلبة في الكافتيريا عندما كانوا يتهرّبون من مسؤولياتهم باللعب بتدوير الأطباق، عندها بدأ ريتشارد بحساب الذبذبات الناتجة من تدوير الأطباق
 
“مضيعة الوقت هذه” كما وصفها، أدّت إلى تطوير ريتشارد لـ مخطّطات بيانيّة لشرح ” نظريّة الكهروديناميكا كميّة” والتي تعني (التفاعل بين الجسيمات المشحونة كهربائيًا) ممّا أكسبت ريتشارد جائزة نوبل لهذا العمل. 
 
 
11
 
 
 
ليس فقط الأسطورة أرخميدوس -عالم الرياضيّات- الوحيد الذي حصل على لحظات الإكتشاف هذه، كان أرخميدوس مسترخيًا داخل حوض عندما بدأ بملاحظة منسوب الماء الذي إرتفع بمجرّد دخوله للحوض، مّما جعله يقفز من الحوض راكضًا نحو الملك ويردّد ( أوريكا، أوريكا ) والتي تعني  وجدتها وجدتها ويشير بهذا لإكتشافه لقاعدة الطفوّ. 
 
حتى اينشتاين أصدر نظرية النسبيّة أثناء التجوّل بدراجته. 
 
بينما تعتقد الطائفة البروتستانيّة بأن الشيطان يأتي في أوقات الفراغ التافهه ليؤثّر على عقول البشر، إتّضح بأن أوقات الفراغ التافهه مصيريّة لعمليّة الإبداع، تحدث الإختراعات أثناء التفكير في اللاشيء. 
 
علماء الأعصاب يجيبوننا اليوم عن العلاقة بين التفكير في اللاشيء والإبداع، عندما نفكر بالتفاهه فإن عقولنا تكون في أوج نشاطها.. كل هذا يتعلّق  بالوضع الإفتراضي للدماغ. أندرو سمارت، باحث في العوامل البشريّة ومؤلّف كتاب “اوتوبايلوت، علم وفن فعل اللاشيء”
 
 عندما يحوّل العقل مساره إلى وضع التفاهه، تقوم شبكة داخل الدماغ -غير مترابطة- بشكل واعي بجمع الأفكار الشاردة في أذهاننا وتربطها  بشكل عشوائي ممّا يتيح لنا أن نرى مشكلة قديمة بحل جديد. 
 
بإستعمال فحوصات الدماغ، الطبيب النفسي جون كونيوس و مارك بييمين إكتشفوا التالي
” قبل لحظة التبصُّر، يتحوّل تركيز العقل نحو الداخل” ما سمّوه بـ (وميض الدماغ) عندها تُضيء منطقة يُعتقد بأنها مرتبطة بقدرتنا على فهم شعر الإستعارة.
 
المزاج الجيد وأخذ وقت مستقطع للراحة، الطريق للوصول للحظات الـ ” أها” 
 
هذا لا يدعو لأن نكون أغبياء وكسولين طوال الوقت وأن التفاهه هي الطريق إلى النجاح، فالسير إسحق نيوتن بدأ بدراسة علم الفيزياء عندما كان يقضي وقته جالسًا في الحديقة في مزاج تأمّلي. يحتسي الشاي على نحو مهمل بعد العشاء في مساء يوم، لاحظ سقوط التفاحة بإستقامة على الأرض، عندها ألّف قانون الجاذبيّة. 
 
 
 
22
 
 
 
 
حتى تكون مبدعًا أكثر، تحتاج للتذبذب بين الدراسة بعمق وإهتمام مركّز و بين أحلام اليقظة.. لهذا السبب تسقط علينا الأفكار المبدعة أثناء الإستحمام.. سمارت قال في هذا الصدد:
 
“الأفكار، تأتي عقلك الواعي عندما لا تكون مشغولًا” 
 
 
في دراسة حديثة في صناعة الأدوية، أجريت بواسطة مركز أبحاث في إختراعات الطب الحيوي، ويليام تشين عميد سابق للبحوث في جامعة هارفرد الطبيّة٬ وجد بأن بالرغم من ضخامة البحث وميزانية التطوير، إلّا أن عدد الأدوية المصنّعة أصبح أقل إلى النصف في العقود الماضية والسبب يعود لتمسّك وهوس الشركات بالكفاءة بدلًا من الإختراعات الحالمة والجريئة. 
 
تضغط الشركات العاملين لأن يكونوا في المكتب للعمل طوال الوقت، لكن في نفس الوقت يرغبون بإبتكار الجديد ، الحقيقة هي أنّ الإختراع يأتي من الترك.. فلا تستطيع الحصول على الإثنين “أن يبتكرالموظّف، وأن يبقى في المكتب ايضًا” 
 
 أغلق الأخوان رايت متجرهم للدرجات  في أوهايو وإرتحلوا لشاطئ نورث كارولاينا وأثناء هذا الوقت من اللعب والتسلية قاموا بإختراع طائرة.
 
 
بالرغم من صعوبة تصديق كل هذا في عصرنا الحديث، وفي ثقافة عبادة وتقديس العمل التي نعيشها، التفاهه وقضاء الوقت في اللعب وحلم اليقظة والذهاب بعيدًا عن الضوضاء، الروتين الشاق والإزعاج اللامنتهي الصادر من المصانع والمباني- ليس فقط أساسي في الإبتكارات بل في الحقيقة هو ما صنع الحضارة. 
 
إن إزدياد إحساس ضياع الفرد نتيجة لزيادة عدد ساعات العمل.
 
الفن، الأدب، الإختراعات، الفلسفة، الإبتكار— قد يجادل المرء بأنه من غير المعقول أن تولد كل هذه الإبداعات كنتيجة لقضاء الوقت بلا إنقطاع في المتعة وأحلام اليقظة.
 
 
الفيلسوف برتراند رسل، في مقالته المشهورة عام ١٩٣٢ “في مديح الخمول” وصّى بأربعة ساعات من العمل كلّ يوم ومزيد من وقت المتعة وأحلام اليقظة.
 
تخيّل إمكانية أن نعيش في عالم وقت المتعة! جادل ايضًا بأن وقت المتعة ليس مخصصًا فقط لإبتكار الفنون الثقافية والعلوم والحضارة، بل هو طريق لنُحرّر المظلومين والمستعبدين في العمل و نخلق نظام ديمقراطي جديد. 
 
 فبدون المتعة، كتب برتراند: 
 
“فلولا هذه الطبقة المنعّمة بالفراغ لما خرجت البشرية من غياهب البربريّة”
 
 فماذا لو، بدلًا من التحديق خارج النافذة، قرّرت أن تنغمس الباحثة لمنظمة العفو الدولي ج.ك. رولينغ في رزمة من القضايا؟ أو لو فتحت هاتفها لتقرأ رسائل البريد أو تلعب لعبة تطبيق مشهور؟ 
 
 
 
 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s